الملكية البرلمانية.. النقاش الذي أبعدته الأحزاب وأعاده الملك إلى الواجهة

27

لا أحد من السياسيين اليوم، بإمكانه أن ينكر أهمية المطلب الديمقراطي، الذي يرغب في اعتماد ملكية برلمانية كأسلوب لتدبير شؤون البلاد، وكحل وجيه لبناء الدولة الديمقراطية، وتكريس سلطة الشعب وسيادة القانون، إلا أن هذا التوصيف النظري، هو في نظر العديد من المتتبعين بقي حلما موقوف التنفيذ، أبقى الملكية البرلمانية عند الأحزاب السياسية، نقاشا سياسيا مؤجلا، بعدما أنهى الدستور الجديد السجال حول الفصل 19 في الدستور السابق، ليعاد النقاش من جديد عشية وضع دستور 2011، حول ماهية تأسيس ملكية برلمانية دستورية ديمقراطية اجتماعية، وليتجدد النقاش في الآونة الأخيرة عن مآل هذا المطلب الذي كان ملء السمع والبصر عند انطلاق حراك 20 فبراير، وطالب به فاعلون سياسيون ومدنيون، وعبروا عن رغبتهم ساعتها في أن “يسود الملك من دون أن يحكم”، إلا أن الأحزاب والهيئات السياسية، سواء أكانت إسلامية أو يسارية أو يمينية، تباينت مواقفها إزاء مطلب الملكية البرلمانية، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية، الذي قاد الحكومة سواء في فترة بنكيران السابقة أو العثماني حاليا، فقد ظل أغلب قيادييه البارزين يرفضون هذا المطلب الذي يمكن أن يحد من صلاحيات الملك، في المقابل تطالب به قوى سياسية يسارية وتعتبره شرطا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقناعات هاته الأحزاب تشدد على الملكية البرلمانية كمفهوم سياسي يمكن من التوفيق بين الطابع الملكي الوراثي للنظام السياسي، والديمقراطية، كقيمة إنسانية عالمية، وطريقة لتدبير الاختلاف، وتعزيز المشاركة الشعبية.

حسب مذكرات الأحزاب حول دستور 2011، فمفهوم الملكية البرلمانية لم يطرح في كل المذكرات، بل إن بعض الأحزاب فقط هي من تقدمت به، لكنها تباينت في تقديمها لهذا المفهوم، فبعضها أكد ضرورة تكييف المفهوم مع التطور التاريخي السياسي للمغرب، وموازين القوى، والدور المركزي الذي كانت دائما تلعبه الملكية في هذا النظام السياسي، ومن ثم يرى بعضها ضرورة أن تبقى للملك صلاحيات مهمة، بالنظر إلى دوره التاريخي.

في المقابل أحزاب أخرى، أكدت أن الملكية البرلمانية يجب أن تكون بمفهومها الكوني، أي أن “الملك يسود ولا يحكم”، فرغم كل التباينات في وجهات النظر، وقع التأكيد على مطلب إعادة توزيع السلط، وجعل البرلمان نقطة الثقل، ومركز اتخاذ القرار السياسي، وجعل تركيز السلطات في إطار ملكية تنفيذية، بمثابة توجه جديد نحو جعل البرلمان مركز الصراع السياسي، ومركز اتخاذ القرار.

آخر النقاشات السياسية حول مفهوم الملكية البرلمانية، هو الموقف الذي خرج به مؤخرا المستشاران بالديوان الملكي المغربي، عبداللطيف المنوني، وعمر عزيمان، في الصيف الماضي، وطفا على السطح من جديد، ردا حول ما أثارته الصحافة الفرنسية، التي شنت حملة منسقة على المغرب، تزامنا مع احتفال المغرب بالذكرى الـ20 لجلوس الملك محمد السادس على العرش.

الموقف عبر عنه مستشارا الملك في حوار أدليا به إلى وكالة الأنباء الفرنسية اختارت له عنوان: “من التطورات السياسية إلى الأولويات والمنجزات والنواقص”، ردا على حملة أطلقتها منابر إعلامية فرنسية، قامت من خلالها بتقييم 20 سنة من حكم الملك.

ونقلت الوكالة الفرنسية عن عمر عزيمان، رأيه حول إمكانية تصور ملكية برلمانية في المغرب على النمط الأوروبي، قوله: “لسنا في إطار نظام يشبه الملكية الإسبانية أو الهولندية، حيث يسود الملك دون أن يحكم، نحن في ظل نظام ملكية من نوع آخر، لكن سلطات الملك محددة”، مؤكدا أن المغرب يوجد على طريق الملكية البرلمانية، قائلا: “نحن على طريق ملكية برلمانية، لكن بطبيعة الحال ما تزال ثمة، ربما، بعض المقتضيات التي يلزم تجويدها”.

من جهته، اعتبر المنوني أن “الدستور الجديد يتيح للأحزاب السياسية إمكانيات أكبر لتفرض نفسها مقارنة مع الماضي، لكن التطور المنتظر على هذا الصعيد لم يتحقق بعد في الواقع. ربما، يلزمه وقت”.

وبخصوص تقييم حصيلة 20 سنة من حكم الملك محمد السادس، قال عزيمان إن “الكثير من المنجزات المفيدة للبلد تحقق، لكن ثمار التنمية خلال الفترة الماضية لم يستفد منها الجميع. ما نزال غير قادرين على خلق فرص عمل لشبابنا، وما تزال لدينا مناطق تعاني التهميش، وبوسع المغاربة أن يفخروا بما تحقق، لكننا لا نستطيع تجاهل النواقص والاختلالات، لكي نواصل التقدم لا بد لنا من ضمان انسجام اجتماعي، هذا شرط أساسي”.

وجوابا عن السؤال عينه، أكد عبداللطيف المنوني أنه “تحققت عدة أشياء، وعلى صعيد الإصلاحات الديمقراطية أنجز الأهم، وما يزال مطلوبا ترسيخ هذه المنجزات”، موضحا أن الأولويات السياسية بالمغرب، “في مرحلة أولى كانت تتركز حول التقدم في مجال الإصلاحات الديمقراطية، وبناء دولة القانون، وتعزيز حقوق الإنسان، وطي صفحة الماضي، وإنجاح تجربة العدالة الانتقالية”، معتبرا أنه “ابتداء من فترة 2004-2006 فتحت الأوراش الاقتصادية الكبرى، سواء منها مشاريع البنيات التحتية (الطرق، الطرق السيارة، الموانئ، المطارات)، أو برامج النهوض بقطاعات الفلاحة والصناعة والطاقات البديلة”. لتصبح الأولويات حاليا هي “تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، يستوجب إنجازها صياغة نموذج تنموي جديد يكون أكثر حرصا على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية. كما يستوجب نهج سياسة مجالية جديدة ستساهم فيها الجهوية المتقدمة بقوة والعمل على توسيع صلاحيات الجهات المحلية”، يؤكد المستشار الملكي.

بالنسبة إلى عزيمان، فإن من أهم التغيرات السياسية التي حصلت، هو أن “المغرب يسير منذ تولي الملك محمد السادس الحكم، في طريق تطبعه الاستمرارية والتغيير في الوقت ذاته، فالنظام لم يتغير، ولم تحدث قطيعة، بل استمر، مؤكدا قدرته على التأقلم مع تطورات الزمن والمجتمع”، موضحا أن “الفرق الجوهري بالمقارنة مع عهد الملك الحسن الثاني يكمن في الانتقال إلى السرعة القصوى على مستوى الاختيارات الاستراتيجية، وعمل مؤسسات الدولة، وتنفيذ السياسات العمومية، واشتراط الفعالية”.

واعتبر عزيمان عطفا على ما جاء به دستور 2011، أن “الملك كان يحتل مكانة مركزية في الدستور القديم، وما يزال كذلك في الدستور الحالي، وهنا تتجلى فكرة الاستمرارية. في الوقت ذاته، هناك تغيير جوهري، فبينما كانت مكانة الملك في الدستور القديم غير محددة في نطاق معين، أصبح مجالها محدد المعالم في الدستور الجديد. الفرق كبير بين الوضعيتين”.